فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسرائيل} روى الواحدي عن الكلبي أنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا على ملة إبراهيم» قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبأنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان ذلك حلالًا لإبراهيم عليه السلام فنحن نحله» فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرمًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبًا لهم والطعام بمعنى المطعوم، ويراد به هنا المطعومات مطلقًا أو المأكولات وهو لكونه مصدرًا منعوتًا به معنى يستوي فيه الواحد المذكور وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضيّ: أنه يقال: رجل عدل ورجلان عدلأن لانه رعاية لجانب المعنى، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام، والحل مصدر أيضا أريد منه حلالًا، والمراد الأخبار عن أكل الطعام بكونه حلالًا لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الانفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام. و{إسرائيل} هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، وعن أبي مجلز أن ملكًا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه.
{إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ} قال مجاهد: حرم لحوم الأنعام، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبأنها. وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه، وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكله أبدًا، وقيل: حرمه على نفسه تعبدًا وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك، ونسب هذا إلى الحسن، وقيل: أنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذائذ على نفسه. وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه، وقال بعض: كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده، وقيل: منقطع، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول.
{مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى: {الطعام كَانَ حِلًا} ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفًا أو جارًا ومجرورًا أو حالًا، وقيل: متعلق بحرم، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الأخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجًا وتضييقًا، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف، والتقدير: كان حلا من قبل أن تنزل التوراة في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل: متى كان حلًا؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدًا للحل.
ولا يخفى ما فيه، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالًا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعى عليهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] وقوله سبحانه: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] الآيتين، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالًا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول. وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداءًا بأبيهم يعقوب عليه السلام، وقال الكلبي: لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم، فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبًا عظيمًا حرم الله تعالى عليهم طعامًا طيبًا وصب عليهم رجزًا، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئًا من ذلك في التوراة ولا بعدها، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد.
{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلامًا مع اليهود منقطعًا عما قبله، وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرًا. وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}.
وحين يحرم نبي الله يعقوب- إسرائيل- طعاما ما، فهو حر؛ فقد يحرم على نفسه طعاما كنذر، أو كوسيلة علاج أو زهادة، لكن الله لم يحرم عليه شيئا، وما تحتجون به أيها اليهود إنما هو خصوصية لسيدنا يعقوب {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ} فلماذا تقولون: إن الإبل وألبأنها كانت محرمة؟
لقد فعلوا ذلك لأنهم أرادوا أن يستروا على أنفسهم نقيصة لا يحبون أن يُفضحوا بها، وتلك هي النقيصة التي كشفها القرآن بالقول الكريم: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
إذن فهناك أشياء قد حُرمت على اليهود لأنهم ظلموا، وهذه الآية الكريمة هي التي أوضحت أن الحق قد حرم عليهم هذه الأطعمة لظلمهم. ومعنى: {كُلَّ ذِي ظُفُر} أي القدم التي تكون اصابعها مندمجة ومتصلة، فليست الأصابع منفصلة، ونجدها في الإبل والنعام والأوز، والبط، وهذه كلها تسمى ذوات الظفر {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني الشحم الذي على الظهر.
أما {الحوايا} فهي الدهون التي في الأمعاء الغليظة {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}. أي الشحم الذي يختلط بالعظم إن التحريم هنا لم يكن لأن هذه الأشياء ضارة، ولكن التحريم إنما كان عقابا لهم على ظلمهم لأنفسهم وبغيهم على غيرهم.
وأقول ذلك حتى لا يقول كل راغب في الانفلات من حكم الله ما الضرر في تحريم الأمر الفلاني؟ إن محاولة البحث عن الضرر فيما حرمه الله هي رغبة في الانفلات عن حكم الله. فالتحريم قد يأتي أدبا وتأديبا، ونحن على المستوى البشرى- ولله المثل الأعلى- يمنع الإنسان منا المصروف عن ابنه تأديبا، أو يمنع عنه الحلوى، لأن الابن خرج عن طاعة أمه، إذن كان التحريم جزاءً لهم وعقابا قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160- 161].
وذلك هو الجزاء الذي أراده الله عليهم.
إن التشريع السماوي حينما يأتي لظالم يخرج عن منهج الله فكأنه يقول له ما هو القصد من خروجه عن منهج الله؟ لماذا يظلم؟ لماذا يأخذ الربا؟ لماذا يصد عن سبيل الله؟ لماذا يأكل أموال الناس بالباطل؟ إن الظالم يفعل ذلك حتى يمتع نفسه بشيء أكثر من حقه، لذلك يأتي التشريع السماوي ليفوت عليه حظ المتعة، وكان هذا الحظ من المتعة حقا وحلًا له، لكن التشريع يحرمه.
ومثال ذلك القاتل يحرم من ميراث من يقتله؟ لأن القاتل استعجل ما أخره الله، وأراد أن يجعل لنفسه المتعة بالميراث، فارتكب جريمة قتل، لذلك يأتي التشريع ليحرمة من الميراث.
كأن التشريع يقول له: ما دامت نيتك هكذا فأنت محروم من الميراث والتشريع حين وضع ذلك إنما حمى كل مورث، وإلا لكان كل مورث عرضة لتعدى ورثته عليه بالقتل لينتقل إليهم ما يملك، فقال: لا. نحرمة من الميراث وكذلك هنا نجد الظلم بأنواعه المختلفة، الظلم بإنكار الحق، والصد عن سبيل الله، وأخذ الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وما دام اليهود قد أدخلوا على أنفسهم أشياء ليست لهم فالتشريع يسلب منهم أشياء كانت حقا لهم.
وكان اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبون ألا يُشاع عنهم هذا الأمر فقالوا: إن هذا الطعام محرم على بني إسرائيل. وبعد ذلك وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا اللون من الطعام حلال في التوراة، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي فضحهم.
ولماذا تجيء هذه الآية بعد قوله الحق في الآية السابقة: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}؟ ونحن نعرف أن آية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ} قد جاءت بعد آية توضح النفقة غير المقبولة من الله. ولنذكر ما قلناه أولا، عن تداعي المعاني في الملكات الإنسانية: إن في النفس الإنسانية ملكة تستقبل، فتتحرك ملكة أخرى، وحين يقول الحق: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسرائيل} فالذين يسمعون هذا سينفعلون انفعالات مختلفة، فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه بالغ، ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام، أما من ليس عنده طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلال من الطعام والحرام منه.
إذن فقبل أن يأتي الله بالحكم الذي يحلل ويحرم، هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الافتقار وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه، إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه، فإنه يحرك معطيا على موجود معه، لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام، وقبل أن يُقلب الأمر على النفس الإنسانية التي لا تجد طعاما، نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه الحق {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. فبتداعي المعاني في النفس الإنسانية يكون سبحانه قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة. وهكذا يكون التوازن الذي أراده الله في الكون المخلوق له.
إنه رب يحكم كونه، فلا ينسى شيئا ويذكر شيئا.
{لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} إن كل شيء في علمه كما قَدّره وهو الخلاق القدير العليم، وهو لا يذكر بعضا من الخلق، وينسى بعضا آخر، فهو قد كتب العدم لحكمة، وأعطى النعمة لحكمة.
لقد جعل الفقير عبرة، ولكنه لم يتركه، وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إلا عرضا زائلا، فمن الممكن أن يصبح القادر الآن عاجزا بعد دقائق أو ساعات، ومن الممكن أن يصبح القوي ضعيفا، فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الآخرين؛ حتى يضمن لنفسه التأمين الإلهي لو صار ضعيفا، فيعطيه الأقوياء، فعندما يأمر الله الأقوياء بأن يعطوا وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لأن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} هذا القول قد خدم قضية سبقتها، وهي أنه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به، ما دام كافرا، إنها نفقة مرفوضة لا اعتبار لها، إنها هدر. ويأتي من بعد ذلك بتحديد النفقة التي ليست هدرا، ثم يفضح اليهود بقضية توجد عندهم في التوراة ولكنهم كذبوها، وهي قضية تتعرض للطعام، وما دامت القضية تتعرض للطعام فهناك الكثير من الملكات التي يمكن أن تتحرك، فملكات الواجد حين تتحرك فحركتها تكون بأسلوب غير الأسلوب الذي تتحرك به ملكات المعدم. فقيل أن يُحَرِك وجدان المعدم إلى أنه معدم، حتى لا يتلقى ذلك بحسرة، فإنه سبحانه يكون قد عمل رصيدا لهذا المعدم، فيرقق قلب الواجد أولا {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} وبعد ذلك يأتي قوله الحق سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
ومعنى كلمة حل هو حلال، ويقابلها حرام وحل هي مصدر، وما دامت مصدرا فلا نقول هذان حلالان بل نقول: هذان حل، ونقول: هؤلاء حل وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
{لا هن} هذه لجماعة النساء، والحل مفرد، وعندما يقول الحق سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إسرائيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ} فهذا يعني أنه قد حرم بعضا من الطعام على نفسه فهو حر في أن يأخذ أو يترك، أوأنه قد حرمه على نفسه فوافقة الله؛ لأن الناذر حين ينذر شيئا لم يفرضه الله عليه فهو قد ألزم نفسه بالنذر أمام الله.
إن الزمن الذي حرم فيه إسرائيل على نفسه بعضا من الأطعمة هو {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أي أن هذا التحريم لم يحرمه الله، ويأتي الأمر لرسوله الكريم أن يخاطب بني إسرائيل: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنه قد كشف سترهم، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن النص الذي يؤيد صدقه موجود في التوراة، ولهذا لم يأت اليهود بالتوراة، وذلك لعلمهم أن فيها نصا صريحا يصدق ما جاء به رسول الله، ولا يحتمل اللجاجة، أو المجادلة، وما داموا لم يحضروا التوراة فهذا يعني أنهم غير صادقين. ويقول الحق: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (94):

قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

الافتراء اختلاق الكذب، والفرية الكذب والقذف، وأصله من فرى الأديم، وهو قطعه، فقيل للكذب افتراء، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود.
ثم قال: {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرمًا قبله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين. اهـ.

.قال البقاعي:

{فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من {افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعظم {الكذب} أي في أمر المطاعم أو غيرها.
ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} أي البيان العظيم الظاهر جدًا {فأولئك} أي الأباعد الأباغض {هم} خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية {الظالمون} أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئًا في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فمن عبارة عن أولئك اليهود، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذٍ دخولًا أوليًا، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال: فرى الأديم يفريه فريًا إذا قطعه، واستعمل في الابتداع والاختلاق، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة {فَاتُواْ} [آل عمران: 93] فتدخل تحت القول، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها.
{مِن بَعْدِ ذلك} أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة.
{فَأُوْلَئِكَ} أي المفترون المبعدون عن عز القرب {هُمُ الظالمون} لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم، وقيل: هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال للدلالة على كمال القبح، وقيل: لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى، وقيل: أنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة. اهـ.